سورة الزخرف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} [الزخرف: 43/ 1- 8].
افتتحت السورة بالأحرف الهجائية: (حم) للتنبيه على خطر ما يأتي في هذه السورة، ولتحدي العرب بالإتيان افتراء بمثل أقصر سورة من القرآن ذات الموضوع الواحد، لأنه بلغتهم ومن أصول مادة كلامهم. لذا كان الغالب بعد هذه الأحرف الكلام عن القرآن، وقد أقسم اللّه تعالى بالقرآن البيّن الواضح، الجلي المعاني، الذي أبان طريق الهدى والنور.
فكلمة (المبين) إما من (أبان) أي ظهر، فلا يحتاج إلى مفعول، وإما من (بان) وهذا يحتاج إلى مفعول تقديره: المبين الهدى والشرع ونحوه.
ومن أجل إفهام العرب وتدبر معانيه، جعلناه منزلا بلسان عربي فصيح واضح، لتتعقلوا آياته، فلا يعسر فهمها وإدراكها، والتعرف على أسرارها وإعجازها، وجعلناه بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر، وهذا هو المقصود من قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فهو ترجّ بحسب معتقد البشر، فمن تدبّر الآيات يرجى منه أن يعقل ويفهم الكلام. وأم الكتاب: اللوح المحفوظ، فإنه أصل جميع الكتب السماوية، وفي هذا تشريف للقرآن وترفيع.
وإن هذا القرآن عند اللّه رفيع القدر، عالي الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك، ومحكم النظم، لا لبس فيه، ولا اختلاف أو تناقض، كما جاء في آية أخرى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 5/ 48]. وآية: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 4/ 82].
وهل نترككم أيها العرب وغيركم من غير تذكير، ولا وعظ، ولا أمر ولا نهي، لأنكم مسرفون في الإنكار والتكذيب؟ أو أنهملكم ونبعد الذكر عنكم، ونمسك عن إنزال القرآن لكم، لأنكم تجاوزتم الحدود المعقولة في أعمالكم؟ وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} صفحا: مصدر، مفعول مطلق لنضرب من غير لفظه، مثل: قعدت جلوسا.
ولا تعجب أيها الرسول من إعراض قومك عن رسالتك، فهذه سيرة الأولين الغابرين، فإنه لم يأتهم نبي ولا رسول إلا كانوا به يكذبون ويسخرون، كتكذيب قومك واستهزائهم بك. وقوله: {كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} ظاهرة العموم، والمراد به الخصوص، فيمن استهزءوا، وإلا فقد كان في الأولين: من لم يستهزئ. والآية وعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب أشد منهم بطشا.
لقد أهلكنا قوما هم أشد قوة من هؤلاء القوم المكذبين لك أيها النبي، وقد سبق إيراد مواقفهم أكثر من مرة، وعرفت سنة اللّه فيهم. فعليهم أن ينظروا في مصائر المتقدمين، ليحذروا الوقوع في مثل مصائرهم. وكلمة {مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} معناها: سنة أو سيرة أو عقوبة المتقدمين، والمعنى: سلف أمرهم وسنتهم، وصاروا عبرة للأمم.
والأولون: هم الأمم الماضية كقوم نوح، وعاد وثمود وغيرهم. والمراد: أننا جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين: أن يصيبهم مثل ما أصابهم، كما جاء في آية أخرى: {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 43/ 56].
هذه حملة مركزة على قريش وأمثالهم، حيث لا عذر لهم في ترك إجابة دعوة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقد وضحت أمامهم السّبل، وكثر تذكيرهم، وتجاوزوا الحدود في الإسراف والعصيان، وضربت لهم الأمثال، وجعلت أمامهم العبر والمواعظ، فلم يبق عندهم عذر في معارضة دعوة الإسلام، فليتهم بادروا إلى الإيمان بالله وحده، وترك الاستهزاء، وإذا لم يتعظوا وأصروا على الكفر والتكذيب، استحقوا إنزال العذاب وألوان الخزي والهوان، كما نزل بمن قبلهم من ألوان العقاب والإهلاك والتدمير بسبب كفرهم وتكذيبهم رسولهم، والعاقل: من اتعظ بغيرهم، وأقلع عن المعصية إذا شاهد عقوبة العصاة.
من عجائب الصنع الإلهي:
ما أحلم اللّه تعالى على عباده، وما أصبره على مخلوقاته، يخلقهم ويرزقهم وينعم عليهم، ومع ذلك يكفرون به، ويجحدون بوحدانيته، فيتنزل لمستواهم الفكري، ويقيم لهم الأدلة والبراهين الكثيرة على عظمة ذاته وقدرته، ومن أهمها إبداع مصنوعاته وعجائب مخلوقاته، وكثرة نعمه وآلائه، وإذا افتقر الإنسان أو أصيب بمصاب، لم يجد غير اللّه ملجأ، ولا سواه ملاذا، فيفرّج كربته، ويكشف أزمته أو محنته، وهذه ثمانية أدلة على وجود اللّه وتوحيده، مما يلمسه كل إنسان. ويحسّ به من مشاهدات الكون:


{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} [الزخرف: 43/ 9- 14].
هذه أوصاف أفعال اللّه تعالى، وهي نعم منه سبحانه على البشر، تقوم بها الحجة القاطعة على كل كافر مشرك بالله تعالى، وهي هنا ثماني صفات:
1- 3- تالله لئن سألت أيها الرسول المشركين بالله: من الذي خلق السماوات والأرض؟ لأجابوا بأن الخالق لهما هو اللّه وحده لا شريك له، وأن اللّه هو القوي الغالب مما يدل على كمال قدرته، وأنه الواسع العلم، مما يرشد إلى تمام علمه، وهذا احتجاج على قريش، يدل على تناقضهم في أمرهم، وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو اللّه تعالى، وهم مع ذلك يعبدون أصناما، ويدّعون أنها آلهة لهم، وهي عاجزة عن كل شيء، وأما اللّه تعالى فهو الموصوف بالقدرة التامة على خلق جميع الممكنات، لتميزه بالقوة والعلم الكاملين.
4- واللّه تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ممهدة كالفراش والبساط، صالحة للإقامة، والاستقرار عليها، ويتصرّف فيها بسهولة ويسر.
5- وخلق اللّه تعالى في الأرض والطرق والمسالك، ليتمكن الإنسان من الاهتداء بسلوكها إلى المقاصد والمنافع، والانتقال بين الأرجاء، للاتجار وطلب الرزق والسياحة ونحوها.
6- واللّه سبحانه هو الذي أنزل من السحاب المطر بقدر الحاجة، وبمقتضى المصلحة للزروع والثمار والشرب ومصلحة الإنسان، فأحيا به الأرض الميتة، وأخرج منها النبات، وكما أحيا اللّه الأرض بعد موتها، يحيي الأجساد يوم القيامة بعد موتها، ويبعث الناس من القبور. ومن حكمته تعالى وفضله: أنه لا ينزل المطر فوق الحاجة، لئلا يؤدي إلى الطوفان والغرق الشامل، وهدم المنازل، وتلف الزروع، ولا يقصر عن الحاجة حتى تتحقق الكفاية في النبات والزرع والناس. فكلمة (بقدر) أي بمقدار الكفاية.
7- واللّه تعالى خلق الأزواج، أي الأنواع أو الأصناف كلها من كل شيء، من الزروع، والثمار، والأشجار، والإنسان والحيوان وغير ذلك، مما نعلمه وما لا نعلمه.
8- واللّه هو الذي خلق وسائل الركوب والحمل من السفن والأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم. وفي الأنعام فوائد أخرى من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار والأصواف. واللّه تعالى صرح بكيفية الانتفاع بالسفن والأنعام: بأن تستقروا على ظهورها، ثم تتذكروا نعمة اللّه التي أنعم بها عليكم، وتقولون بعد الركوب عليها: { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي تنزه اللّه تعالى عن كل نقص وعجز، الذي ذلّل لنا هذا المركب، وما كنا مطيقين لتسخيره، لولا أن سخره اللّه لنا، وإنا لصائرون راجعون إليه بعد مماتنا، فيجازي كل نفس بما عملت من خير أو شر. وهذه الآية خاصة في ركوب الحيوان ويقال عند النزول منها: اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين. ويقال عند ركوب الفلك بما جاء في آية أخرى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 11/ 41]. والسنة للراكب إذا ركب أن يقول: الحمد لله على نعمة الإسلام، أو على النعمة بمحمد عليه الصلاة والسّلام، أو على النعمة في كل حال.
وفي دعاء الركوب هذا: إقرار واضح بعجز الإنسان، وأمر بالإقرار بالبعث، وترداد القول به.
روى ابن أبي نجيح والنحاس عن مجاهد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: أن الإنسان إذا ركب، ولم يقل ما في هذه الآية {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا} هذا جاء الشيطان فقال له: تغنّه، فإن كان يحسن تغنّى، وإلا قال له: تمنّه، فيتمنى الأباطيل، ويقطع زمنه بذلك.
من أباطيل الجاهلية وتناقضات المشركين:
على الرغم من اعتراف المشركين بأن اللّه هو خالق السماوات والأرض، صدرت منهم عدة أباطيل ومتناقضات مع ذلك الاعتراف، منها نسبة الملائكة لله وأنها بنات اللّه، والزعم بأن عبادة الملائكة بمشيئة اللّه، وأن الملائكة إناث لا ذكور، وإذا نوقشوا في هذا لم يجدوا جوابا إلا أنهم يقلدون الآباء تقليدا أعمى، مثلما يقول المترفون في غابر الزمان، حتى ولو عارض ذلك العقل أو المنطق، أو رأوا أفضل وأرشد مما كان عند الأسلاف، وحيث أفلس المترفون من كل دليل أو حجة، وأصروا على التقليد الباطل، انتقم اللّه منهم فصاروا مضرب الأمثال، كما تحكي هذه الآيات الشريفات:


{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} [الزخرف: 43/ 15- 25].
هذه ألوان من تناقضات المشركين وأباطيلهم، فإنهم على الرغم من إقرارهم بألوهية اللّه وأنه خالق الأرض والسماء، نسبوا له من عباده ولدا، فقالوا: الملائكة بنات اللّه، إن الإنسان جحود نعمة ربه، بيّن الجحود، والجحود من أبين الكذب، وقوله: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} أتى بلفظ الجنس العام، والمراد: بعض الإنسان، وهو هؤلاء المشركون الجاعلون الملائكة بنات اللّه. وجحودهم بهذا السخف الخالي من الحجة، فالله هو خالق كل شيء، فكيف ينسب إليه شيء من مخلوقاته؟ وذلك يتنافى مع كمال اللّه عز وجل وتنزيهه عن مشابهة الحوادث. وهم قد زعموا أن كل العباد ليس لله، بل بعضها لله، وبعضها للشركاء، فالآية لإنكار الشريك لله.
لذا أنكر اللّه تعالى على هؤلاء أشد الإنكار باتخاذ ولد للّه، وكيف يصح أن يتخذ لنفسه من خلقه البنات أضعف الجنسين، ويختار لعباده الأفضل وهو الذكور؟ وهذا يعني أن اللّه تعالى جعل لنفسه المفضول من الصنفين، وللناس الفاضل منهما، مع أن اللّه تعالى هو الخالق لكل شيء.
ومما ينكر على المشركين أيضا: تشاؤمهم من الأنثى، فإذا بشّر أحدهم بها، أنف من ذلك واغتم، وامتلأ غيظا وكربا، وتغيّر وجهه، فكيف يأنفون من البنات، ثم ينسبونها إلى اللّه عز وجل؟! وأكد اللّه هذا الإنكار عليهم، في أنه كيف يجعل لله من الولد من صفته أن يتربى في حليّ الذهب والفضة والزينة والنعمة، وكان في الجدال عاجز البيان، عيي اللسان، لا يقدر على الجدال وإقامة الحجة؟ وهذا دليل على رقة المرأة وضعفها، وغلبة عاطفتها عليها.
ومن مفتريات المشركين: أنهم حكموا بأن الملائكة إناث، ترتيبا على قولهم السابق: الملائكة بنات اللّه، فأنكر اللّه عليهم ورد إفكهم وقولهم بأنه: هل حضروا خلق اللّه للملائكة حتى يشهدوا بأنهم إناث؟ ستكتب وتدوّن شهادتهم الباطلة الزور بذلك في صحف أعمالهم، لمجازاتهم على ذلك، وسؤالهم عنها يوم القيامة.
ومن افتراءات المشركين أنهم قالوا: لو أراد اللّه ما عبدنا هؤلاء الملائكة، أي إنهم نسبوا عبادة الملائكة لمشيئة اللّه، والواقع أن المشيئة الحاصلة لا تستلزم الأمر، واللّه لا يأمر إلا بالخير، فرد اللّه عليهم: ليس لهم أي دليل علمي على صحة قولهم وحجتهم، وما هم إلا يكذبون فيما قالوا ويتقولون، ويظنون ظنا باطلا. ثم أبطل اللّه تعالى قولهم بالمطالبة بالدليل النقلي: هل أعطيناهم كتابا قبل القرآن ينطق بما يدّعون، ويتمسكون به ويحتجون به؟ ليس الأمر كذلك إطلاقا.
نزلت هذه الآية: {بَلْ قالُوا} كما ذكر مقاتل في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، قالوا هذا القول.
ولا حجة لهم إلا تقليد الآباء والأجداد، فإنهم قالوا: لقد وجدنا آباءنا على هذه الطريقة والمذهب في عبادة الأصنام، وإنا سائرون على منهاجهم، ومتبعون آثارهم.
والتقليد الباطل أو الأعمى قديم، فمثل ما أرسلنا إليك أيها الرسول أرسلنا إلى من قبلك، فجوبهوا بمثل هذا، وقال المترفون المنعمون: وهم قادة القوم لرسولهم المرسل إليهم لتخويفهم من بأس اللّه وعذابه: إنا وجدنا آباءنا على هذه الملة أو الطريقة والدين، وإنا على مذهبهم سائرون، ولطريقتهم متبعون.
وعبر هنا بكلمة (مقتدون) لإفادة مجرد الاتباع، وفي الآية السابقة (مهتدون) لإفادة ادعاء الهداية. وهذا يدل على أن التقليد في العقيدة والعبادة ضلال.
وكان جواب الرسل لأقوامهم عن التقليد: أتتبعون آباءكم، ولو جئناكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ فأجابوهم معلنين كفرهم صراحة: لا نعمل برسالاتكم، ولا سمع ولا طاعة لكم، وإنا جاحدون منكرون ما أرسلتم به.
فلم يكن بعد الإصرار على الكفر إلا أن انتقم اللّه من الأمم المكذبة للرسل بأنواع العذاب، كقوم نوح وعاد وثمود، فانظر أيها المخاطب العاقل: كيف كان مصير المكذبين رسلهم، كيف بادوا وهلكوا، وآثارهم موجودة للعبرة والنظر.
إنكار النبوة وحقارة الدنيا:
من افتراءات المشركين وتناقضاتهم في التقليد الأعمى وغيره: أنهم يقلدون في عبادة الأصنام، ولا يقلدون أبا العرب إبراهيم عليه السّلام في عقيدة التوحيد، وأنهم يطيعون الشيطان ويتلهون بمتاع الدنيا عن كلمة التوحيد، ويصفون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه ساحر كذاب، منكرين نبوته، ويدّعون أن الأحق بالنبوة: الزعيم الشريف، والثري الكبير، وصاحب النفوذ. ولكنهم في كل ذلك مخطئون، فإن معايير اختيار النبي ليست كمعايير الدنيا، فاصطفاء النبي يكون بالقيم الثابتة الأدبية والروحانية والمقومات العالية عند الإنسان، والدنيا ومتاعها حقير، فليست دليلا على السمو والتفوق، والآخرة خير وأولى، وصف اللّه تعالى هذه الأحوال في الآيات الآتية:

1 | 2 | 3